الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

بقلم ناجي العلي

      بقلم ناجي العلي:
طور الصبا
    اسمي ناجي العلي.. ولدت حيث ولد المسيح ، بين طبرية والناصرة ، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات ، في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان .. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور ، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً .. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك .
.. أرسم .. لا أكتب أحجبة ، لا أحرق البخور ، ولكنني أرسم ، وإذا قيل أن ريشتي مبضع جراح ، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه.. كما أنني لست مهرجاً ، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود .. ثقيلة .. ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا .
   متهم بالانحياز ، وهي تهمة لا أنفيها .. أنا لست محايداً ، أنا منحاز لمن هم "تحت" .. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى ، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم ، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها .. ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات.
    كنت صبياً حين وصلنا زائغي الأعين ، حفاة الأقدام ، إلى عين الحلوة .. كنت صبياً وسمعت الكبار يتحدثون .. الدول العربية .. الإنكليز .. المؤامرة .. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم .. ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق ، التقط الحزن بعيون أهلي ، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطاً عميقة على جدارن المخيم .. حيثما وجدته مساحة شاغرة .. حفراً أو بالطباشير..
    وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن ، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني ، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية .. ثم إلى الأوراق .. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة " الحرية"وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من " الحرية " وفيها رسوماتي ... شجعني هذا كثيراً.

     حين كنت صبياً في عين الحلوة ، انتظمت في فصل دراسي كان مدرسي فيه أبو ماهر اليماني ..وعلمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه ، وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا .. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم " ارسم .. لكن دائماً عن الوطن " ..
 
    وتوجهت بعد ذلك إلى دراسة الفن أكاديمياً ، فالتحقت بالإكاديمية اللبنانية لمدة سنة ، أذكر أني لم أحاول خلالها إلا شهراً أو نحو ذلك ، والباقي قضيته كما هو العادة في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية .. كانوا يقبضون علينا بأية تهمة ، وبهدف واحد دائماً: هو أن نخاف ، وكانوا يفرجون عنا حين يملون من وجودنا في السجن ، أو حين يتوسط لديهم واحد من الأهل أو الأصدقاء.
ولآن الأمور كانت على ما كانت عليه ، فقد فكرت في أن أدرس الرسم في القاهرة ، أو في روما ، وكان هذا يستلزم بعض المال ، فقررت أن اسافر إلى الكويت لأعنل بعض الوقت .. وأقتصد بعض المال .. ثم اذهب بعدها لدراسة الرسم ..
     ووصلت بالفعل إلى الكويت عام 1963، وعملت في مجلة" الطليعة " التي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك في ذلك الوقت .. كنت اقوم أحياناً بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن واحد .. وبدأت بنشر لوحة واحدة .. ثم لوحتين ..وهكذا .. وكانت الاستجابة طيبة .. شعرت أن جسراً يتكون بيني وبين الناس ، وبدأت أرسم كالمحموم ، حتى تمنيت أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى .. بعشرين يداً .. وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب .. عملت بصحف يومية بالإضافة إلى عملي ، ونشرت في أماكن متفرقة من العالم .
كنت أعمل في الكويت حين صدرت جريدة" السفير " في بيروت . ولقد اتصل بي طلال سلمان وطلب مني أن أعود إلى لبنان لكي أعمل فيها . وشعرت أن في الامر خلاصاً ، فعدت ولكني تألمت وتوجعت نفسي مما رأيت ، فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة ، كانت  تتوفر له رؤية أوضح سياسياً ، يعرف بالتحديد من عدوه وصديقه ، كان هدفه محدداً فلسطين ، كامل التراب الفلسطيني .

    لما عدت ، كان المخيم غابة سلاح ، صحيح ، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدته أصبح قبائل ، وجدت الأنظمة غزته ودولارات النفط لوثت بعض شبابه ، كان هذا المخيم رحماً يتشكل داخله مناضلون حقيقيون ، ولكن كانت المحاولات لوقف هذه العملية . وأنا اشير بإصبع الاتهام لأكثر من طرف ، صحيح أن هناك تفاوت بين الخيانة والتقصير ، ولكني لا أعفي أحداً من المسؤولية ، الأنظمة العربية جنت علينا ، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها .

وهذا الوضع الذي اشير إليه يفسر كثيراً مما حدث أثناء غزو لبنان .


  بقلم ناجي العلي:
                  وبدأ الغزو ....


   عندما بدأ الغزو كنت في صيدا ، الفلسطينيون في المخيمات شعروا أنه ليس هناك من يقودهم ، اجتاحتنا إسرائيل بقوتها العسكرية ، انقضت علينا في محاولة لجعلنا ننسى شيئاً اسمه فلسطين ، وكانت تعرف ان الوضع عموماً في صالحها ، فلا الوضع العربي ، ولا الوضع الدولي ولا وضع الثورة الفلسطينية يستطيع إلحاق الهزيمة بها ، والأأنظمة العربية حيدت نفسها بعد " كامب ديفيد ".



      في الماضي كانت الثورة الفلسطينية تبشر بحرب الأغوار بالرجب الشعبية ، العدو جاء باتجاهنا وكل قياداتنا العسكرية كانت تتوقع الغزو، وبتقديري ، ورغم أنني لست رجلاً عسكرياً ولم أطلق رصاصة في حياتي ، أنه كان من الممكن أن تجتاح إسرائيل لبنان بخسائر أكبر بكثير ، وهنا تشعر أن المؤامرة كانت واردة من الأنظمة ومن غير الأنظمة ، أقصد مؤامرة تطهير الجنوب والقضاء على القوة العسكرية الفلسطينية وفرض الحلول " السلمية" وتشعر أنه مقصود أن تقدم لنا هذه "الجزرة" لكي نركض وراء الحل الأمريكي.



   هذا هو الوضع العربي والوضع الفلسطيني جزء منه ، بتقديري أنه كان يمكن أن نسدد ضربات موجعة لإسرائيل ، ولكن مخيماتنا ظلت بلا قيادة ، وكيف لأهاليها أن يواجهوا الآلة العسكرية الإسرائيلية !
    الطيران والقصف اليومي من البر والبرح والجو ، بالإضافة إلى أن الوضع كان عملياً مهترئاً ، قيادة هرمت ، ومخيمات من زنك وطين، اجتاحها الإسرائيليون وجعلوها كملعب كرة قدم ، ومع ذلك وصل الإسرائيليون إلى بيروت وحدود صوفر ، والمقاومة لن تنقطع من داخل المخيمات وبشهادات عسكريين إسرائيلين وبشهادتي الشخصية اعتقلت أنا وأسرتي كما اتعقلت صيدا كلها وقضينا 3 أو 4 أيام على البحر .
بعد أن تم الاحتلال ، كان همي أن أتفقد المخيم لأعرف طبيعة المقاومة والقائمين بها ، أخذت معي ابني _وكان عمره 15 سنه وذهبنا في النهار ، كانت جثث الشهداء ما زالت في الشوارع والدبابات الإسرائيلية المحروقة على حالها على أبواب المخيم لم يسحبها الإسرائيليون بعد ، تقصيت عن طبيعة المقاومين فعرفت أنهم أربعون أو خمسون شاباً لا أكثر ، كان الأإسرائيليون قد حرقوا المخيم والأطفال والنساءكانوا مازالوا في الملاجيء، وكانت القذائف الأإسرائيلية تنفذ إلى الأعماق وكان قد سقط مئات الضحايا من ألأاطفال في المخيم وفي صيدا . وبشكل تلقائي عاهد هؤلاء الشباب أنفسهم أنهم لن يستسلموا وأنها الشهاجة أو الموت ، وفعلاً لم تستطع إسرائيل أن تأسر أي واحد من هؤلاء الشباب . في النهار ، في ضوء الشمس كانت إسرائيل تنقض عليهم . وفي الليل يخرجون هم بالأر بي جي . فقط .
هذه صورة مما حدث في مخيم عين الحلوة ، وأنا شاهد ولكني أعرف أن هناك صوراً أخرى في مخيمات صور والبرج الشمالي والبص والرشيدية .
كان الناس في الملجأ وفي الشارع يدعون لله ويسبون الأنظمة وكل القيادات ويلعنون الواقع ولا يبرئون أحداً ، ويشعرون أنه ليس لهم إلا الله ويتحملون مصيرهم .


     جماهير الجنوب بما فيها جماهيرنا الفلسطينية المعترة (الفقيرة ) هي التي قاتلت وهي التي حملت السلاح ووفاء لهذا الشعب العظيم الذي أعطانا أكثر مما أعطانا أي طرف آخر،  وعانى وتهدم بيته ، لابد من أن يقول المرء هنا إن مقاومي الحركة الوطنية اللبنانية قد جسدوا روح المقاومة بما يقارب الأسطورة . وفي رأيي أن الإعلام العربي مقصر في ع ملية توضيح روح المقاومة الحقيقية . 



































         بقلم ناجي العلي:
                  دور النساء

  
    في عين الحلوة تبعثر الناس بين البساتين مع أطفالهم ، أما إسرائيل فلمت كل الشباب (أنا مثلاً انفرزت 4 أو 5 مرات ) ثم اعتقلت ونقلت معظمهم إلى أنصار .

     وهنا بدأ دور النساء . ولا أعتقد أن بإمكان أي فنان أ، يجسد ذلك الوضع الذي عاش في ظله أهالي الجنوب ، على لافور بدأت النساء_ والجثث مازالت في الشوارع _تعود إلى بيوت الزنك الذي انصهر وتعمل مع أطفالها على إصلاح البيت ، بالأحجار ، وبالخشب ، تظلل أولادها من الشمس ، تعمل كالنمل تعيد بناء عششها التي تهدمت . وكان شاغل إسرائيل والسلطة اللبنانية أيضاً أن تختفي هذه المخيمات لأنها هي البؤرة الحقيقية للثورة ، ولكن النساء والأطفال في غيبة الرجال في معسكرات الاعتقال أو المختفين من الرصد الإسرائيلي ، قاموا بإعادة بناء مخيم عين الحلوة .
    شاهدت كيف كان الجنود الإسرائيليون يخشون من الأطفال (الشبل ابن العاشرة أو الحادية عشرة كان لديه القدر الكافي من التدريب الذي يمكنه من حمل مدفع الأر بي جي . والمسألة ليست معقدة ، دباباتهم أمامك وسلاحك في يدك ) كان الإسرائيليون يخشون من دخول المخيم وإن دخلوه فلا يكون ذلك إلا في النهار .
عندما تركت لبنان منذ أكثر من سنة ، كان مخيم عين الحلوة قد عاد .. الحائط الذي ينهدم يعاد بناؤه ويكتب عليه " عاشت الثورة الفلسطينية ، المجد للشهداء ".



     وفي تقديري أن هذا العمل لم يكن بتوجيه من أحد بل جاء تلقائياً وكنوع من الانسجام مع النفس .كانت كبرياء الناس وكرامتهم هي التي تملي عليهم تلك المواقف ، لأنه في حالات كثيرة كان الإنسان يتمنى الموت . والإسرائيليون اوصلونا إلى حالة نفسية من هذا النوع كنا قد تجاوزنا مرحلة الخوف والهلع ، وكان الخط الفاصل بين الحياة والموت قد سقط .
أصيبت ابنتنا الصغيرة جودي من قصف عشوائي من جماعة سعد حداد وكان ذلك سنة 1981 ، قبل الاجتياح كنت نائماً وسمعت الصراخ ثم حملتها وهي تصرخ وأجرينا لها عملية جراحية ، ولا نزال نعالجها .
 
     ولكن مصيبتنا تتضاءل أمام مصائب الناس ، فهناك عائلات فقدت خمسة أو ستة شباب من أبنائها وأصبح البيت خاوياً ، همنا الشخصي لا يذكر. وكان يؤرقني طوال الوقت إحساس بالعجز عن الدفاع عن الناس ، فكيف أدافع عنهم برسم ؟ كنت أتمنى أن أستطيع أن أفدي طفلاً واحداً . إن ظروف الادجتياح من قسوتها أفقدت الناس صوابهم . مرة وأنا عائد إلى البيت مع ابني خالد وجدت رجلاً عارياً، كان الناس ينظرون إليه باستغراب ، ناديت على وداد ، زوجتي ، طلبت منها أن تنزل لي قميصاً وبنطلوناً . كان الرجل حجمه كبير فأحضرت قميصاُ من عندي وبنطلوناً من عند جارنا وألبسناه ، كان الرجل في وضع مأساوي جداً حاولت أن أسأله لكنه لم يتكلم . سألت  عنه فعرفت أنه من صيدا وأنه عندما استمر القصف عدة ليال اضطر للخروج ليحضر لأولاده خبزاً أو شيئاً يأكلونه على أمل أن يجد دكاناً مفتوحاً ، لأن صيدا القديمة شوارعها مشقوفة وبالإمكان أن يسير فيها الإنسان بقدر نسبي من الأمان . لم يجد الرجل أي دكان مفتوح فعاد إلى بيته . ولكنه وجد البيت وقد تهدم على زوجته وأطفاله السبعة أو الثمانية ففقد توازنه .
     وعندما أخذنا الإسرائيليون باتجاه البحر ، مررت من أمام هذا البيت فوجدت لافتة مكتوباً عليها بالفحم " انتبه هنا ترقد عائلة فلان " (للأسف نسيت الاسم ) هذه اللافتة كتبها هو بنفسه ، لأن الجثث كانت لاتزال تحت الردم . فقد الرجل عقله وسار في الشارع عارياً.
هذه صورة من صور المآسي وهي عديدة . كان البعض يسر أمام الدبابات الإسرائيلية ويهتف "تعيش الثورة ، تسقط إسرائيل، يسقط بيغن " في حالة فقدان التوازن .
      بجوار بيتنا هناك ساحة ، جاءت جرافات كبيرة وتصورنا أن الإسرائيليين سيقيمون مواقع دبابات لهم ولكنهم كانوا قد لملموا الجثث في الشوارع وأتوا بها لدفنها في هذا المكان الذي أصبح مقبرة جماعية .
     كل من عاش هذه التجربة رأى حجم المأساة ، البعض استطاع استيعابها والبعض الآخر فقد إتزانه . ومع ذلك لم يعد هناك خيار. كانت المرأة تدافع عن زوجها ، تعيد بناء بيتها ، تؤمن ماءها ، تطمئن على الاولاد في أي معتقل، تخرج في المظاهرات ، تطالب بالإفراج عن الرجال المعتقلين. وكانت إسرائيل تحصدهم حصداً بالرصاص . وهناك صديقة إيطالية صورت مشهد النساء اللاتي سقطن برصاص الجنود واستشهدن، لاحقها الإسرائيليون ومرغوها في الوحل ولكنها استطاعت الهروب وجاءت إلى البيت عند وداد زوجتي وغسلت الكاميرا ونشرت الصور التي التقطتها في مجلات غربية .
      وفي هذه المرحلة كان الجيش الإسرائيلي يأتي بصحفيين إلى صيدا ويجعلهم يشاهدون كيف أن الجيش الإسرائيلي يقدم مياهاً للشرب للأطفال . ولم تكشف الصحافة المجازر التي جرت في صيدا . صحيح أن بعض الصحفيين كشفوا الذي حدث في صبرا وشاتيلا ولكن حتى هذا تم جزئياً في سياق هدف سياسي . 


 
      
لم يكن الهدف من هذه المجازر البشعة قتل الآلاف من الفلسطينين ، إنما كان الهدف زجرنا بالمعنى النفسي . ولكن حتى إن مل البعض من النضال ، فهناك أجيال آتية وكما كنا نتعلم من الحزن في عيون آبائنا ، سوف يلتقط منا من يأتي بعدنا رسالة . جيلنا أعطى ولكن حجم المؤامرة علينا كان أكبر . الواقع العربي خدم أعداءنا / الواقع الدوزلي ومسائل أخرى كثيرة . ..شعبنا لا ينقصه قيادة بل حزب ، حزب يملك دليلاً نظرياً كاملاً يبدأ من نقطة الصفر. لو فهم من كلامي أني غير راض عن الثورة ساقول لك نعم أنا غير راض . أشعر أن فلسطين بحاجة إلى ملائكة ، جند الله ، ألف جيفارا ، أنبياء تقاتل ، قيادات حقيقية واعية تعرف كيف ترد . وبتقديري أن الانظمة العربية أجهضت ثورتنا ، وبتقديري أيضاً أن المقولة القائلة أن الفلسطينين وحدهم هم الذين عليهم تحرير فلسطين ، هي مقولة خائنة ، فكلنا نعرف ما هي طموحات إسرائيل بالنسبة لمصر ولبنان وسوريا .
     وبعد الاجتياح بقيت شهراً في صيدا حاولت مثلي مثل غيري أن أرمم البيت وأن أواسي الناس واعزيهم ، أملأ  ماء ، أنقل أشياء للناس ، إلخ ..ولكني كنت افكر ماذا أفعل وانتهيت إلى ضرورة الذهاب إلى بيروت حيث جريدة" السفير "وحيث بإمكاني أن أرسم .



































         بقلم ناجي العلي:
ما زلنا أحياء ...بالصدفة!

       مر وقت ظن فيه الناس أني مت ، إلى أن مرت إحدى الصديقات في صيدا واكتشفت أني موجود فأعطيتها رسومات لي لكي يطمئنوا  في السفير ويتأكدوا من أني ما زلت حياً .
      وكنت طوال الوقت افكر : ماذا أفعل ؟ وانتهى بي تفكيري إلى ضرورة الذهاب إلى بيروت ، فودعت زوجتي وأولادي وذهبت ، كان من الصعب أن أصل ليس فقط بسبب الإسرائيليين ولكن أيضاً بسبب الكتائب الذين كانت معرفتهم بأني فلسطيني سبباً كاتفياً لقتلي .
      بدأت رحلتي ذات صباح باكر في سيارة ، ثم نزلت بين أشجار الزيتون في منطقة اسمها الشويفات واتجهت إلى بيروت مشياً ، ويومها التقيت بالكاتب المسحي السوري سعد الله ونوس الذي كان طالعاً باتجاه دمشق وكان لديه أخبار أني ميت ، ثم وصلت" السفير".
      في بيروت التقيت بالكاتبين الفلسطينيين  حنا مقبل  (رحمه الله)  ورشاد أبو شاور ، وكانا يصدران مجلة اسمها "المعركة " فصرت ارسم في" السفير" وأرسم في "المعركة "وأتسائل مالذي بإمكان المرء أن يفعله في مواجهة هذا القصف من الجهات الستة (من الأربع جهات ومن الجو والسيارارت المفخخة ) .وكما يقول الفلسطينيون " هنا يكون الموت موجب كثير" كان المواطن منا يشعر بالتقصير والعجز ويرحب بالموت .
      وعشنا معاً نحن العاملين في السفير في تلك الفترة (وحتى البنات مرة طبخن معكرونة بلا لحم طبعاً ولاشيء ولكننا وجدناها أشهى أكلة . وكان معنا شاب مصري يعمل في الكانتين ويظل ساهراص معنا ويأتينا بالشاي والقهوة ) .كانت تجربة خاصة وحميمة وكان شغلنا هو رفع معنويات الناس بالكلمة ، وبالمانشيت ، بالرسم .
      " السفير" قدمت لشبابها ، كما قتل الشاعر علي فودة وهو يوزع مجلة " الرصيف "التي كان يصدرها . كانت المسألة قدرية ، القذائف تصل الاطفال في الملاجيء .. وهكذا يشعر الإنسان أن بقاؤه حياً محض صدفة ، إذا جاءت القذيفة جاءت و إن لم تأتِ فذلك مجرد صدفة ، لم تكن هناك الفرصة أمام أحد ليحزن أو ليبكي . وأنا بكيت مرة واحدة بعد خروج المقاومة ومجزرة صبرا وشاتيلا . ولم يكن بكائي قهراً بقدر ما كان إعلاناً أني فلسطيني وأني أبكي الشهداء  وأبكي الوضع . كنت أشعر بالوحشة . كثيراً من أصداقائي الحميمين كانوا قد ذهبوا وكنت أشعر أن البيوت من حولي فارغة . قبل ذلك كنت تلتقي في نفش تلك الشوارع بالمناضل المصري مع المناضل اللبناني مع المناضل الفلسطيني مع المناضل العراقي . والمرء يشعر بوجودهم ويتحامى فيهم ويستظل بهم ، ومع ذلك صار لبيروت بعد خروج المقاومة تقدرير خاص في نفسي .

       وكنت أسأل نفسي كيف أعبر ؟ كنت أشعر بالعجز وأتصور أنه لا يوجد أي شاعر يقدر على تجسيد أي مشعد أو لحظة واحدة من لحظات بيروت ، ومع ذلك كنت أرسم .
       وفي يوم كان القصف فيه عنيفاً جداً على بيروت ، من الجهات الست ، وتوقفت كل الصحف ما عدا " السفير" وأين نلجأ ؟ لجأنا إلى الدور الأارضي محل المطابع . واستمر القصف طوال الليل ولم يتركوا زاوية أو بيتاً  إلا وقصفوه . وعندما خرجت فوجدت كل البيوت مصابة من فوق ومن تحت وانضافت إليها شبابيك جديدة . رسمت زهرة مقدماً لبنت - رمز بيروت – من الفجوة التي احدثتها القذيفة مع عبارة " صباح الخير يا بيروت " .
 
إن " صباح الخير" لليلة حالكة بهذا الشكل تكتسب معنى خاصاً تصور القاريء ، وبعد كل هذا القصف والموت ، يفتح الجريدة في الصباح ... فيرى الرسم ، ويرى أحداً يصبح على بيروت . كان ذلك كلقاءنا في الشارع بعد القصف نقبل بعضنا ونبتهج أننا ما زلنا أحياء وكل شيء يهون مادمنا ما زلنا أحياء ! .
  و عندما بدأ الرحيل – وبالمناسبة لم استطع رؤية هذا المشهد الذي ربما يكون فيه مقتلي ...

لم أستطع الخروج لتوديع المقاومة ورؤية الناس وهي ترش الزهور والأرز على المقاتلين . أقول عندما بدأ الرحيل ومع أول سفينة غادرت الميناء ، رسمت فدائاً يترك السفينة الراحلة ويسبح عائداً إلى الشاطيء ، وهو يقول : " اشتقت لبيروت " .





































         بقلم ناجي العلي:
الوعي يتشكل

       إحساسي ووعي للوطن بدأ يتشكلان ونحن في المدرسة الابتدائية بعين الحلوة . كنا نستغل مناسبات  مثل وعد بلفور ، أو ذكرى تقسيم فلسطين أو 15 ايار (مايو)  للتعبير عن رغبتنا بالعودة إلى فلسطين .

 
      كنا في أيام الذكرى نرفع أعلاماً سوداء فوق المخيم ونمشي في شوارع وننشد أناشيد قومية لم تكن خاصة بفلسطين أول مرة ، ولكنها في المخيم تكتسب معنى فلسطينياً خالصاً. كان هناك بعض الأناشيد الخاصة بمناضلين استشهدوا في فلسطين مثل " يا ظلام السجن خيم / إننا نهوى الظلاما / ليس بعد الموت إلا / فجر مجد يتسامى " .
       هذه النشيد ردده أحد شهداء ثورة 1936 كان سجيناً في يوم إعدامه ألقى هذا النشيد تناقله عنه السجناء الآخرون .
 
    بعد عودتي من السعودية كان بدأ يتشكل في المخيم بعض نشاط سياسي . كان هناك نشاط للقوميين السوريين وانتبهت إلى أن معظم الشباب المخيم كانوا مندفعين في حركة القوميين العرب . أما جماهيرالمخيم فكانت ناصرية ، إذا كان أمل الناس بالعودة قد أنتعش بعد بروز قيادة عبد الناصر .
 
      أنا حاولت أن أنتمي إلى حركة القوميين العرب 1959 إلا أنني اكتشفت ، واكتشفوا  هم معي ، أنني لا أصلح للعمل الحزبي . فخلال سنة واحدة أبعدت أربع  مرات عن التنظيم بسبب عدم انضباطي .
      في تلك الفترة كنت أقرأ كتباً قومية لساطع الحصري وكان شباب الحركة هم الذين اشاروا علي بذلك ، كما كنت طبعاص اقرا مجلة " الحرية " التي كانت تصدر شهرياً آنذاك .
      غسان كنفاني لم أقرأ له شيئاً في تلك الفترة ، غير أنني تأثرت به منذ رأيته يتكلم في إحدى الندوات في المخيم . رأيت أنه يعبر عن هموم الناس ، كانوا يحبونه . ونحن كنا نحب كل من يستطيع أن يقترب من همومنا الوطنية . في فترة لاحقة صرت اقرأ له كتاباته السياسية في مجلة " الحرية " .
      الحركة كانت تشجعني على القراءة الأدبية . أحببت روايات نجيب محفوظ ، في فترة لاحقة قرأت لغسان "موت سرير رقم 12 " روايته " رجال في الشمس " أثرت بي كثيراً كما أثرت بمعظم أبناء جيلي من الفلسطينين . كانت صرخة " لماذا لم يدقوا جدار الخزانة "  تصفعنا صفعاً وتجعلنا نفكر كثيراً .
       كانت تلك الجملة تعني لي أنه مع كل الحصار المضروب حول شعبنا لا نستطيع أن نطلب النجدة من أحد ابطال رواية غسان ماتوا على جمارك الخليج دون أن يكون لديهم أي أمل في أن أحداً سيساعدهم أو يسامحهم . كنا نعتبر أنهم ماتوا أمام جمارك الأنظمة العربية جميعها . إذ ليس الخليج إلا رمزاً .
       إضافة إلى ذلك كانت الأغنيات المصرية . حين استمع الآن إلى أغنية " الله أكبر " التي انطلقت أيام العدوان الثلاثي استعيد ذلك الزمان كله . عموماً أنا أحن إلى الأغاني كلها . إلى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وصالح عبد الحي وزكرياأحمد أنها الاغنيات التي اطرب لها وتشعرني بالأصالة .  كما أحب كثيراً أن استمع إلى أغنيات القرى التي كنت اسمعها في فلسطين وظللت متواصلاً معها في لبنان . في المخيم كنا نسمعها في المناسبات . كان الناس هناك يعيدون الطقوس القروية كاملة . وهناك أذكر أنني لم أكن أجد فرقاً كثيراً بين أغنيات القرى في فلسطين وشبيهاتها في الاردن وسوريا ولبنان كانت هي نفسها تقريباً .
      بحكم ارتباطي ومعيشتي ودراستي في المخيم كنت اشعر لفترة أنني أعيش في " غيتو " فلسطيني . كان اختلاطنا معاً آنذاك بمثابة عزاء نقدمه لبعضنا البعض . كان الغيتو قسرياً من جهة أخرى حيث لم يكن يصح للفلسطيني أن يعمل في المؤسسات العامة ، ثم أنه كانت لنا مدارسنا الخاصة فينا حتى لا نتعلم في سواها نظراً لأوضاعنا المالية .  في الفترة الأخيرة أعطتني تجربتي في جريدة " السفير" فرصة للاحتكاك بشباب غير فلسطينين . علاقاتي الحميمة الأخيرة كانت مع جنوبيين . اكتشفت أنه كلما تعززت علاقتي بشاب أو بفتاة يطلع من الجنوب . أظن أن بيننا شيئاً مشتركاً وأظن أن هواي هوى جنوبي.

     لم أحتك بالوسط الثقافي الفلسطيني ، ولم أدخل في المؤسسات الثقافية التابعة لمنظمة التحرير إلا في السنة الأخيرة قبل الاجتياح ، صرت عضواص في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب .
 
      في الفترة الأخيرة، لم أكن فلسطينياً خالصاً في حياتي الشخصية والثقافية. صار مضمون الإنتماء الفلسطيني، بالنسبة لي، لباً يأخذ أشكالاً قومية وإنسانية عامة. هذا شعور وليس قراراً. هكذا كنت أشعر بمعزل عن الصيغ السياسية هذا الشعور إستمر عندي حين كانت تقوى النزعات القطرية وتشد عند الناس العديدين المحيطين بي. كان أحدهم يكتشف فجأة أنه لبناني أو فلسطيني أو سوري. أنا كنت أقاوم هذا التشتت لأنني أرى أن هناك مجالاً لشعور إضافي غامر يتمثل في وحدة أهدافنا جميعاً.
     في بداية وعيي السياسي كنت أظن بأني، مع نفر قليل من أصدقائي في المخيم، نستطيع تحرير الجليل. كنت ولا أزال مقتنعاً بحرب التحرير الشعبية لأنني قد وصلت مبكراً إلى الكفر بالأنظمة وبجميع المؤسسات التابعة لها من عسكرية وسياسية وإدارية وثقافية الخ...

      كنت اطمح إلى أن أتعلم القتال ، لكن هذا كان قبل الثورة ، وعندما بدأ الشعب الفلسطيني يتسلح لم أحاول أبداً أن أطلق رصاصة لأنني أعرف أنني في وضع غير القادر صحياً بسبب العملية الجراحية التي أجريت لي ومازالت إلى الآن.
     أنا كنت مبشراً بالثورة وما أزال ، ولكن منذ بداية الثورة كان لي موقف من خط سيرها ، كنت أرى أنها يجب أن تكون قومية لا فلسطينية . فثورة 1936 كان لها هذا الطابع الفلسطيني المحض ، لذلك لم تنجح ثورة 36 في أن تكون نموذجي الذي يجب أن أحتذيه ، كذلك لن تنجح هذه الثورة الأخيرة.































    بقلم ناجي العلي:
حنظلة

  رغبتي بالانتماء هي الآن أشد مما كانت سابقاً ، ولدي شعور بأنني الآن مدعو أكثر من قبل إلى المقاومة وليس شرطاً أن تكون فلسطينية ، أنا الآن أملك إحساساً بالمقاومة الوطنية اللبنانية وهي قريبة من النموذج الذي أطمح إليه ، أيه بندقية تتوجه إلى العدو الإسرائيلي تمثلني ، وما سوى ذلك فلا .
    ولكن ماذا لو دب في الوهن ؟ ماذا لو خالجني الإحساس بالهزيمة والتراجع أو أغراني مجتمع الاستهلاك ؟ .. حتى لو أردت فإنني لن أستطيع ذلك فولدي " حنظلة" موجود في كل لوحة من لوحاتي يراقب ما أرسم ، إنه ذلك الرمز الصغير الذي أثار جدلاً دون أن جدلا دون أن يدير وجهه.. ورسومي لا تباع لأن حنظلة عنصر ثابت فيها .. 


    


حاولوا أن يجعلوني " رسام القبيلة" ... مع هذا النظام ضد ذاك .. ولكن كيف أقبل و " حنظلة " معي دائماً .. إنه رقيب لا تتصور مدى قسوته .. إنه يعلم ما بداخلي ، وهو يراقب هذا الداخل كحد السكين ، فإذا أردت أن أستريح لكزني ، وإذا فكرت في الرفاهية وحسابات البنوك ذكرني بنفسي .. بأصلي وبناسي وأهلي وشعبي .. أستطيع أن احتال على الرقباء الرسميين ، فبعضهم لا يفهم المقصود من رسمي ، وأغلبهم لا يفهم أصلاً ، ولكنني لا أستطيع أن احتال على حنظلة .. لأنه ولدي .
       سنوات طويلة مرت وأنا أرسم .. شعرت خلالهل أنني مررت بكل السجون العربية ، وقلت " ماذا بعد ذلك ؟" كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعاً عن لوحة واحدة .. فكل لوحة أشبه بنقطة ماء تحفر كجراها في الأذهان .
        كثيرون ارتدوا وتساقطوا .. إنهم يشبهون نبات الظل ، نضعه في المنزل ، نوفر له حرارة معينة وضوءاً معيناً ، فينمو ، دعونا من أولئك ، إنهم موظفون ، أما الفنان الملتزم فإنه ينمو وسط الحجارة وتحت الشمس التي تحرق رؤوس أمهاتنا المنتظرات على أبواب المخيم ، وفي القلوب المهمومة للبسطاء أينما وجدوا .. في مصر مثلاً هناك من تشدقوا بالآلام الناس ، وحين وقعت الاتفاقية مع إسرائيل صفقوا .. فسقطوا ، وهناك أيضاً من رفضوا أن يعهروا ريشتهم فلجأوا إلى رسوم الأطفال .. رسموا للأطفال لأنهم رفضوا القبول بلقمة عيش مغموسة بالكذب .. هذا هو الفنان الحقيقي .. ليس هذا في مصر وحدها .. بل في كل مكان ، في صفوف الفلسطينين ، وفي المدن العربية وفي شوارع تمتد ولايعلم بما فيها إلا الله ، وكم فيها من ألم ونبل .
       .... وووعدت أيضاً ألا أصاب بالحول السياسي ، وهو صدقني .. مرض شائع في العالم العربي ، عين تنتقد كذا وكيت وعين تبرر لكذا وكيت ، وكذا وكيت الأولى لا تختلف عن الثانية في كثير أو قليل ، الخلاف هو خلاف المصدر فقط ، ازدواجية مزمنة هو مرض أولئكالذين حاضرونا ذات يوم في الثورية لهم أسعار معروفة ، بالدولار ، أو بالاسترليني ، وهم " كعداد التاكسي" ، يتوقف إذا لم تدفع ، يتجهون إلى حيث يشاء رب النعمة ، ويتجاوزون عن أخطائه ، بل ويحولونها مآثر ، وينهشون خصومه لو ارتكبوا نفس " المآثر"... ولكن هل يحق لي الانتقاد ؟ لست قاضياً ولكنني رساماً ، ولأنني رسام يتحتم علي أن أوجه ريشتي نحو ما أظنه بائع دماء شعبنا لعلها تتحول يوماً إلى نصر يمزق عن وجهه القناع ، ويكشف مدى قبح  ملامحه الحقيقية . أما عن أخطائي فهي تلك التي يخطئني فيها الواقع الذي يحدث، فأنا أكون مخطئاً لو قلت إن هذا يخون ثم استشهد هو نفسه في اليوم التالي دفاعاً عن قضيتنا ، وكم أتمنى أن أكون مخطئاً ، ولكن الواقع بعلمني ، ويشحذ نصل ريشتي ، ثم يثبت أن الخائن يكره الاستشهاد والشهداء .




































   بقلم ناجي العلي:
عذاب ...  الرسم!

     الرسم بالنسبة لي مهنة ووظيفة وهواية؛ ورغم أنني أعمل رساما منذ سنين طويلة ، إلا أنني لم أشعر أبدأ بالرضا عن عملي ، أشعر بالعجز عن توظيف هذه اللغة التعبيرية في نقل همي لأن همي كبير ؟والرسم هو الذي يحقق لي توازني الداخلي، هو عزائي ولكنه أيضاً يشكل لي عذاباً ، أحياناً أقول إن هذا الكاريكاتور الذي أرسمه يجعل حظي أفضل من غيري لأنه يتيح لي إمكانية تنفيس همي ، وإن الآخرين قد يموتون كمداً وقهراً من ذلك الهم الذي يجثم على قلوبهم و ينفث سمه اليومي فيهم. أنا أعرف أن الرسم يعزيني.
      وأشعر أيضاً أن الكاريكاتور لغة تخاطب مع الناس. ولغة تبشير وهو للنقد وليس للترفيه، وأعتبر نفسي جراحاً من النوع ما وأرى أن حزني ومرارتي وسوداوتي التي أعبر عنها في رسومي هي حالى نبيلة ومشتركة بيني وبين المواطنين الذين يحزنهم ويوجعهم هذا الواقع االعربي. قلت لك إنني في الكويت خلقت شخصية حنظلة خوفاً من التلوث بالمجتمع الاستهلاكي، وإنني حاولت أن أرسم بدون تعليق وأن أخلق رموزاً مشتركة بيني وبين القارئ؛ ومع ذلك فإنني أشعر مرات كثيرة أنني أريد أن أكتب تعليقات وأحكي كثيراً، أعمل منشوراً، مانيسفتو، أريد أن أؤذن في الناس، أن أوصل رسالتي بوضوح وبأي شكل، وأشعر أحياناً أن ذلك أن ذلك يتم على حساب فنية الصورة، ولكنني أشعر أني لا أستطيع أن ((أتمرجل)) وأتعالى على القارئ. أحاول أن أستخدم أدواتي الرمزية، ولكني أيضاً مشغول بقضية التوصيل الواضح للشخص العادي الفقير واللذي يعي\نيني في المقام الأول.
      كان اكثر ما يلفت نظري من رسامي مصر ، صلاح جاهين ورجائي وحجازي وبهجت عثمان الليثي. كانوا في تلك المرحلة رواداً مؤثرين ومتطورين ، خصوصاً من كان منهم في مدرسة ((روز اليوسف )) . كما كنت انتبه لأولئك الذين كانوا في لبنان مثل بيار صادق ونيازي جلول وملحم عماد وجان مشعلاني .
     لم أتأثر بأحد منهم ، رغم أنني أشعر بتأثير غير مباشر منهم علي . منذ البادية كنت أشعر أنه لدي حالة مميزة عن الآخرين وكنت كثير الاهتمام في أن ابتكر منهجاً خاصاً في اسلوبي . هذا النهج أراه الآن في نجاحي بمخاطبة الناس عبر أساليب عدة ، وبشعوري أنني عفوي . هاجسي الوحيد حين أرسم هو أن ا؛دد الموقف والفكرة قبل كل شيء ، أشعر أن هذه العفوية في رسمي تنسجم مع رموزي وأشخاصي الذي أتعامل معهم . هم بسطاء و عفويون .
     الفكرة عندي أهم من التوزيع والتشكيل ، لأن رموزي أصبحت معروفة . الشخص المتكرش هو رمز الأنظمة ، والإنسان الفقير والمرأة الفقيرة والطفل هم رمز للبشر ، ليس من أشخاص بل من رموز أحركهم كل يوم منذ سنوات كثيرة هم لا يتغيرون ، لكن الذي يتغير ويغير هو العالم من حولهم الذي يضعهم كل يوم أمام علاقة جديدة أو إعادة تشكيل جديد .

     هناك عدة اتجاهات في فن الكاريكاتير : حالة الحزن والمأساوية صارت مناخاً طغى على  الكثير من رسامي الكاريكاتير العرب . وهناك توجه الآن نحو أن يكون للفنان التزاماته التي تجعله قريبا@ من الناس وليس مسلياً لهم كل صباح ، أنا أعتبر هذه المأساوية التي عندي هي من صلب الوضع الراهن . ولو اختلف ذلك الوضع لرأيت هؤلاء الرموز فرحين أو لرأيتهم قد ولوا واستبدلوا بآخرين . رموزي قليلة : غني وفقير وحاكم ومحكوم ، أرى أن الواقع قادر أن يندرج في هذه الثنائيات . أنا على الأقل  ارى ذلك .
     كفلاح ، أشعر أن وعيي شديد التشيث بالأخلاق . وأنا منحاز كلياً لأخلاق الفقراء والمحكومين ، أحاول أن أنحاز لهم بعملي عبر وسائل عديدة بينها التكرار والطرق المتواصل على حديد الواقع القوي .


































   بقلم ناجي العلي:
 و .... سنستمر ....

        لبنان أحبه ، أهلي هنا وأصدقائي ، وفيه تاريخي وحياتي الكاملة ، حين أرجع إلى ماضي وأتذكر ، فأكثر ما أجده هو لبنان . وحين أكون خارجه في بلد آخر أشعر بالغربة والشوق . قد يفسر هذا تفسيرات غير عاطفية ، لكني أحب لبنان وهذا هو شعوري نحوه ، وقد ازداد حبي له بعدما تعرض لما تعرض له ، بات الآن بمعنى ما شبيهاً بفلسطين ، كان موجوداً ، مثل فلسطين ، وغير موجود في الوقت نفسه ، كان مهدداً بوجوده .
       هذا الشعور عندي نحو لبنان يحرجني أن اسمع أنني غريب عنه ، كان هذا يضع حداً بين الجب وعدم صلاحيتي له ، أو كأنني أسرق شعوراً بالشوق لا حق لي فيه ، كمن يشتهي إمرأة جاره . بالنسبة لأعدائي ، لا فرق بين عدوي الإسرائيلي وعدوي العربي . لا فرق بين أن يكون اسمه محمد أو الياس أو كوهين . لست عنصرياً . لقد أتخذت موقفاً ضد حرب لبنان لأنها حرب "مفبركة " وترتبت بأدوات لخلق كل هذه المصائب ، الفقير الماروني وظف ليقاتل من أجله طبقة برجوازية مارونية ضالعة مع إسرائيل وأمريكا وضالعة مع عرب أمريكا . والفقير الفلسطيني أو الفقير المسيحي يموت وعلى بصره وبصيرته غشاوة تجعله يفشل في تحديد أعدائه الحقيقيين . هذه القضايا أحاول شرحها وألح عليها كثيراً .
      المؤامرة على المنطقة إذن مستمرة ، وأدوات القمع تزداد والقبلية تكثر ، وهذا لا يجعل المرء يستسلم بل لا بد أن يستنفر قواه الذاتية وهذا واجب كل القوى الديموقراطية ، وأحبها أن تشكل نسيجاً واحداً .  ولا أعتقد أن هناك اختلافاً بين المواطن المصري والمواطن التونسي مثلاً . هناك حقوق مهضومة وواقع تجزئة .
      وما أراه أن امريكا تقاتل من خلال أنظمتها - عرب أمريكا -  وأجهزتها البوليسية والإعلامية . ورغم شعوري أن هذا زمن رمادي  وزمن داكن ، فمازلت أبشر بالثورة  ، ثورة حقيقية مهما كانت التضحيات . إن هذا التمزق الضيق والضغوط والمعاناة لا بد أن يولد منها شيء .
المسيح يعنيني كقيمة للفداء ولقد رسمته كثيراً ، ليس لأنه فلسطيني بل لأنه مطارداً ومغلوباً وهو النبي . أرسمه كجنوبي من لبنان وكفلسطيني من أبناء المخيمات .

في الحرب وانا في الملجأ قلت لزوجتي إنني أنذر نذراً لو بقيت على قيد الحياة فسوف " أفضح " هذا الواقع العربي بكل مؤسساته وبكل أنظمته على حيطان العالم العربي كله إن لم أجد جريدة . ومازلت عند نذري ، عندي رغبة في الاستمرار في الإيفاء  بالنذر ..
المعركة مفتوحة ومازال عندي أمل . وعندي إحساس أنه لا بد من الحصول على حقوقنا المهضومة مهما كان الثمن . وأشعر بالضعف أمام الناس البسطاء ، أما النجوم فليس عندي نجوم ، شيء طبيعي أن يكون المرء ثورياً ويكون محترماً .. وليس طبيعياً أن يطلب في المقابل أن يركب على أكتافنا أعلم أنني سأواصل الطيرق ، فأنا على موعد هناك .. بعدياً .. ولن أخلفه ، سنلتقي ذات يوم .. الجميع .. الشهداء ، وأبناء المخيمات والمغتربون هنا وهناك حاملين صورة الوطن في العيون ،  و "فاطمة " الفلسطينية التي حملت هموماً تئن تحت وطأتها الجبال .. سندق ساري علم فلسطين في تراب الوطن .. سنستمر . 









ناجي العلي : شخصيات الكاريكاتير


            

 
حنظلة يُعرّف بنفسه...




عزيزي القارئ اسمح لي ان اقدم لك نفسي .. انا وأعوذ بالله من كلمة أنا ..
اسمي : حنظلة ، اسم أبي مش ضروري ، امي .. اسمها نكبة وأختي الصغيرة فاطمة ..
نمرة رجلي :ما بعرف لاني دايماًً حافي ..
تاريخ الولادة : ولدت في (5 حزيران 67)
جنسيتي:  انا مش فلسطيني مش أردني مش كويتي مش لبناني مش مصري مش حدا .. الخ ،باختصار معيش هوية ولا ناوي اتجنس .. محسوبك انسان عربي وبس ..

التقيت بالصدفة بالرسام ناجي .... كاره فنه لانه مش عارف يرسم .. وشرحلي السبب .. وكيف كل ما رسم عن بلد .. السفارة بتحتج ..الارشاد والانباء ( الرقابة) بتنذر ..
 قلي الناس كلها اوادم .. صاروا ملايكة .. وآل ما في أحسن من هيك .. وبهالحالة .. بدي ارسم بدي اعيش .. وناوي يشوف شغلة غير هالشغلة ..
 قلتله انت شخص جبان وبتهرب من المعركة .. وقسيت عليه بالكلام ، وبعدما طيبت خاطرو .. وعرفتو على نفسي واني انسان عربي واعي بعرف كل اللغات وبحكي كل اللهجات معاشر كل الناس المليح والعاطل والادمي والازعر .. كل الانواع .. اللي بيشتغلوا مزبوط واللي هيك وهيك .. وقلتله اني مستعد ارسم عنه الكاريكاتير . كل يوم وفهمته اني ما بخاف من حدا غير من الله واللي بدوا يزعل يروح يبلط البحر .. وقلتلو عن اللي بيفكروا بالكنديشن والسيارة وشو يطبخوا اكتر من مابفكروا بفلسطين ..

وياعزيزي القارئ .. انا اسف لاني طولت عليك .. وما تظن اني قلتلك هالشي عشان اعبي هالمساحة .. واني بالاصالة عن نفسي وبالنيابة عن صديقي الرسام اشكرك على طول .. وبس ..

التوقيع (حنظلة)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

      دائماً ، في رسومات ناجي العلي يواجهنا ذلك الطفل الذي غالباً ما أدار ظهره للقاريء ، وهو بلا صفحة وجه ..وهو بملامح موجزة ، ولكنه طفل بسيط ساذج ، مضحك ، مبك في أحوال أخرى ..
       وفي المحصلة هو الوجدان الجمعي والشاهد والقاص ، وهو في مراحله الأخيرة الطفل الذي خرج عن كونه كل ذلك ليضيف سمه جدية  ، هي سمة المشارك في الموت وفي المواجهة ، وهذا حاله في الكاريكاتور الذي حمله فيه ناجي العلي مشاعره وهمومه ونزوعاته وصوته الذي بات يعلو من خلال رفع هذا الحنظلة للسيف – المنتهي بريشة قلم :
      يقول ناجي العلي:
        ولد حنظلة في العاشرة من عمره، و سيظل دائماً في العاشرة ، ففي تلك السن غادرتُ الوطن، وحين يعود، حنظلة سيكون بعد  في العاشرة، ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك ... قوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه، إنه استثناء لأن فقدان الوطن استثناء ،.. وستصبح الأمور طبيعيةً حين يعود للوطن ..لقد رسمته خلافاً لبعض الرسامين الذين يقومون برسم أنفسهم ويأخذون موقع البطل في رسوماتهم ... فالطفل يُمثل موقفاً رمزياً ليس بالنسبة لي فقط ... بل بالنسبة لحالة جماعية تعيش مثلي وأعيش مثلها. .. قدمته للقراء واسميته حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني إنساني.

       أما عن سبب إدارة ظهره للقراء فتلك قصة تُروى: في المراحل الأولى رسمتُه ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس، وكان يحمل "الكلاشنكوف" وكان أيضاً دائم الحركة وفاعلاً وله دور حقيقي: يناقش باللغة العربية والإنجليزية، بل أكثر من ذلك فقد كان يلعب "الكاراتيه" .. يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة.
       وفي بعض الحالات النادرة، وأثناء انتفاضة الضفة الغربية، كان يحمل الحجارة ويرجم بها الأعداء، وأثناء خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت كان يقبّل يد هذه المدينة الجريحة مثلما كان يقدم الزهور لها. .

        كنت أحرض الناس .. بعفوية الطفل الذي عقد يديه خلف ظهره ، ولكن بعد حرب أكتوبر 1973 " كتفته" باكراً لأن المنطقة ستشهد عملية تطويع وتطبيع مبكرة قبل رحلة " السادات " ... من هنا كان التعبير العفوي لتكتيف الطفل هو رفضه وعدم استعداده للمشاركة في هذه الحلول ، وقد يعطى تفسيراً أن لهذا الطفل موقفاً سلبياً ينفي عنه دور الإيجابية، لكنني أقول: إنه عندما يرصد تحركات كل أعداء الأمة، ويكشف كافة المؤامرات التي تحاك ضدها، يبين كم لهذا الطفل من إسهامات إيجابية في الموقف ضد المؤامرة ... وهذا هو المعنى الإيجابي. ..أريده مقاتلاً ، مناضلاً و.. حقيقة الطفل أنه منحازٌ للفقراء، لأنني أحمل موقفاً طبقياً، لذلك تأتي رسومي على هذا النحو ، والمهم رسم الحالات والوقائع وليس رسم الرؤساء والزعماء.
       إن"حنظلة"شاهد العصر الذي لايموت.. الشاهد الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها أبداً .. إنه الشاهد الأسطورة ، وهذه هي الشخصية غير القابلة للموت ، ولدت لتحيا ، وتحدت لتستمر ، هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي ، بالتأكيد ، وربما لا أبالغ إذا قلت أني قد أستمر به بعد موتي ) .
      هذا هو فهم ناجي العلي لـ  :"حنظلة " ودوره في الأحداث من خلال رسوماته فــ "حنظلة " الذي انطلق حاملاً " كلاشينكوفاً" ثم عقد يديه مديراً ظهره مابعد عام 1973 ، هو الوجه الأساسي لناجي العلي في قراءته السياسية للواقع العربي ، وفي ترصده لهذا الواقع والغعلان عنه ، ولربما تسنت لــ"حنظلة " فرصتان اثنتان كان خلالهما الحديث اليومي للشارع العربي و" باروميتر" سياسة الفوق العربي . وهما الخطوة الأوضح التي قادها " انور السادات " باتجاه إسرائيل والصلح معها وفق اتفاقيات كامب ديفيد حيث أخذ "حنظلة " على عاتقه الوقوف بوجه هذا الماسر السياسي ، والخطوة الثانية : هي دخول المفاوض الفلسطيني حلبة الصلح مع " إسرائيل والتراجع عن برنامج التحرير" ...
       وعلى هذا المفترق أحس "حنظلة " واحد بقادر على المواجهة ، فظهرت في لوحات ناجي العلي روؤس متعددة لـ "حنظلة "وظهرت في الرسومات المتأخرة لناجي العلي علامات النبؤة بحتمية الرصاصة الغادرة ، فأطلق "حنظلة " ليصرخ معلناً صريحاً بأن كاتم الصوت يقترب من رأسه المدور ...

       ولو تمعنا جيداً في "حنظلة " : هذا الثابت المتحرك في لوحات ناجي العلي ، هذه الشخصية المعبرة في معظم رسوم ناجي العلي عن أشد المواقف حراجة بجرأة منقطعة النظير عبر الحركة والصراخ والتعليق الساخر المتكامل مع شخصيات اللوحة وطبيعة الحدث ومفارقاته ، لوجدنا أنها تعني أيضاً الطفل العربي المطحون والمصادر الطفولة بفعل الفقر والحرمان والجهل والإحباط والمرض والشقاء .. إن "حنظلة " هو الجيل القادم بكل ما أورثناه إياه من  عناء وهزائم وتخلف ... إنه ضمير هذه الأمة الحي وصوت البراءة الطفولية الذي لا يهادن ، بل يعطى الأشياء ألوانها ومسمياتها الحقيقية فلا مكان للمجاملة – وعن سابق وعي وإدراك -  فالأبيض أبيض والأسود اسود ، يقول للعميل : أنت عميل ، وللمنحرف : أنت منحرف ، وللانتهازي : أنت انتهازي ، وللمستغل " بكسر الغين " : أنت مستغل .. هكذا وبدون مقدمات وبلا وجل .. تماماً مثلما يعبر عن حبه وتلاحمه مع الوطني والمخلص والشريف عبر الحركة أو الكلمة ...

       فهو طفل يقاوم مع الأطفال الفلسطينين بالحجارة ، وهو المعبر عن خبه للبنان ومصر في العديد من اللوحات ، وهو الجالس باطمئنان على قدم " الرجل الطيب" بينما الأخير يخط لوحة بسكين كتب عليها :
      " ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا " وهو الراكض بلهفة ماداً ذراعيه عندما يشاهد تلك تلك القبضة الرافعة لعلم فلسطين تشق الأرض لترتفع بعنفوان .. تماماً كما هو ذلك المحتج الرافض والمهاجم بريشته التي تشبه السيف " الميكروفونات " متعددة الأشكال والأحجام ، صارخاً بعبارة خالدة " ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة " .

      هو أيضاً في لوحة أخرى وفي ذكرى معركة حطين يقول : " كانوا اغتالوه " رداً على الرجل الطيب الذي تمنى لو كان صلاح الدين حياً ..

      إنه القائم بالفعل في لوحات كثيرة منها رجمه الصهتينة بالحجارة ، وحمله " الكلاشنكوف" ورجمه للنجمة السداسية بالحجارة ، ورفعه علم فلسطين مكان العلم الإسرائيلي .. إلخ ..

      صور كثيرة ، كثيرة ، توضح إلى حد بعيد الدور الإيجابي لهذا الـ "حنظلة " الذي لم يكن صدفة حافي القدمين ، مرقع الثياب ، تخرج من رأسه المدور بضع شعيرات مستقيمة تشبه انبعاث الأشعة .. فــ "حنظلة " هو ابن الشعب والمنتمي لطبقة المسحوقين والمحرومين والمظلومين والمشردين والمضطهدين ـ الذي تعج بهم ساحتنا العربية ـ  إنه الشخصية المنتمية لقضاياهم والموجهة لهم على طريق الخلاص .. فالشعيرات التي تنطلق من رأسه المدور كالإشعاع في خطوط مستقيمة إنما تعطي الإنطباع بأن "حنظلة " يحمل في وعيه موقفاً ينير الدرب لهذا الطبقة الكادحة المضطهدة وجرأته وتحديد الصارخ للجلادين والقتلة والمستغلين ( بكسر الغين )  والمحتلين ، بل وعبر تحديه للموت في شتى صوره ..
 
      فها هو  "حنظلة " الفاعل والمؤثر والمحرض ، "حنظلة " الشاهد والقاص ، "حنظلة " الضمير الحي ، "حنظلة " ابن الجماهير الذي يكتف يديه معطياً ظهره للقاريء لأنه لا يعرف ان ظهره محمي من أبناء الشعب الذين يقرأون خطابه اليومي المعبر عن تطلعاتهم وآمالهم .



 
فاطمة المرأة الوطن

        المرأة كما الرجل حاضرة دائماً في رؤية ناجي المركزية للصراع بين الأأمة العربية وأعدائها ، فهي لا تغيب ضمن شخوص كاريكاتور ناجي في كافة المجالات وعلى مختلف الأصعدة ، وهي ليست فاطمة العربية الفلسطينية فحسب، بل تتعدى ذلك عندما يصور ناجي الوطن أو الشعب او الأرض أو المخيم .. إلخ .. بإمرأة .. فالمرأة هي فلسطين وهي مصر وهي لبنان وهي " عين الحلوة " و" صبرا " و" صور " و" صيدا " والجنوب والإنتفاضة في الأراضي العربية المحتلة .. كل ذلك في الدالة على العطاء والخصب والحب والتضحية .. فها هي 
 فلسطين إمرأة حبلى لحد الإنفجار ، ملقاة فوق أرض الصخرة المشرفة مقيدة القدمين بأنبوبة نفط ...


         
انه أعطاء روح القدسية للمولود بقدسية المكان وعنف قيد النفط ، السلاح المرتد إلى عكس هدفه ، وهو التبشير بانفجار الغضب الشعبي وولادة الانتفاضة العملاقة في مواجهة المحتل الغاصب .. إنها صورة إبداعية 
 مؤلمة ، محزنة ، محرضة ومبشرة ..



        
وبيروت تلك المرأة التي تودع المغادرين إلى المنافي ، تقف على الشاطيء دامعة العينين ، جريمة ،
متكئة على عصا بسبب إصابتها ، ملوحة بالكوفية الفلسطينية لمن أحبتهم وتوحدت معهم في الأألم والمعاناة والبطولة ..



         وهي أيضاً المرأة التي يخترق نهداها صدر الجندي الصهيوني كالخناجر أثناء "الحصار الإسرائيلي" عندما يفتح ذلك المعتدي ذراعيه لاحتضانها .. إنها المقاومة الكامنة في الشخوص بعيدا عن السلاح التقليدي المادي .. إنه السلاح المعنوي ، سلاح المبدأ والكرامة ، سلاح الإقتناع بعدالة ما تناضل من أجله تلك الشخوص .. إنه أولاً وثانياً وثالثاً الإنسان المسلح بالوعي الوطني والقومي لطبيعة الصراع وطبيعة الأعداء ..
       فـــ " عين الحلوة " تلك المرأة الشامخة برأسها بينما تتساقط دموعها متحولة إلى قذائف في وجه المحتل الصهيوني .. و " صبرا " المرأة الحبلى الواقفة بتحد فوق الدمار وآثار المجزرة تصرخ في وجه الجندي الصهيوني : " صبراً"  بينما تظهر الملابس المرقطة لزوجها الشهيد  ..
    صور متعددة تعبر عن المقاومة القادمة والمستمرة والمبشرةبالنصر من وسط الركام والأحزان ..
       و" عين الحلوة " كما غيرها من المخيمات  الفلسطينية تقاوم أحزانها وآلامها بالأمل بقدوم الفرح الآتي .. إنها تقاوم صانعة من حزنها ودموعها سلاحاً في مواجهة العدو ..
       و " صبرا " تؤكد أيضاً على التواصل الكفاحي الفلسطيني رغم المجازر والدمار والتشريد والقمع .. فلا مكان لليأس أبداً ..
 
وذلك ما شكل ميزة من ميزات كاريكاتور ناجي العلي فهو المبشر والمحرض حتى في اشد اللحظات حلكة وألماً .. فالأمل ينبعث من ثنايا الرماد ، من وسط الركام ، من قلب الأحزان ، من الم النازف والجرح الأخضر ولا مكان للسكون أو الاستكانة .. أما " مصر" تلك الفتاة الجميلة الرافعة علم فلسطين عالياً متحدية كل الظروف ، هي " مصر أم الدنيا " وهي " مصر" التي يزين شعرها وردة دامعة بينما تحتل القضبان وحبال المشانق عينيها ، وسط أرضية لوحة تزينها كوفية فلسطينية منقطة بالقلوب كتب عليها :

تعيشي يامصر    والله يجبر بخاطرك

إنها مصر " سليمان خاطر " مصر المتمسكة بعروبتها ، مصر الداعم والمساند لفلسطين وشعبها ، مصر الرفض للصهاينة ووجودهم .. إنه الحب لمصر كما هو الحب للبنان وكما هو الحب للأردن وكما هو الحب لفلسطين ..

لوحات عديدة أخرى تعبر عن المدن العربية في لبنان وفلسطين عبر شخص المرأة ، كرمز لعطاء الشعب وتضحياته ، وكرمز للخصوبة بولادة جيل الأمل من قلب الهزيمة والألم ..
 
هذه هي المرأة في فن ناجي العلي .. أما الشخصية الأساسية الثابتة للمرأة في رسوم ناجي العلي فهي " فاطمة " الفلسطينية المكافحة "فاطمة " العربية الصابرة المثابرة .

ففاطمة ذات الإزار الطويل والمنديل والوجه المستدير الطيب والعينين السوداوين الشرقيتين ، هي الرمز ، الرمز العربيات المناضلات بكافة أشكال النضال .

هي أولاً المرأة الولادة المعطاءة التي تشبه خصوبتها خصوبة الأرض وعطاءها ترفد الوطن بالمناضلين والمبدعين ، وهي أم الشهداء الذين سقطوا ولا زالوا يسقطون من أجل الوطن ..
 
وهي ثانياً المرأة الصلبة كصلابة حجارة الوطن ، لا تلين لها قناة أمام شظف العيش ومحنة التشرد ، تتجول حافية القدمين وهي باسمة دامعة محتضنة طفلها الرضيع الذي ترضعه حب الوطن ممزوجاً بحنانها وحبها وسط أكوام الركام والدمار ووسط أزيز القذائف والرصاص ليكبر ويحمل البندقية ويتابع الطريق الذي سبقه إليه أبناؤها الآخرون .. إنها تزرع فلسطين في دمائه مع كل جرعه رضاعة ومع كل لمسة حنان وكل كلمة حب .. تدفع زوجها وأولادها إلى متابعة التحرير والاستشهاد فها هي " فاطمة " في إحدى لوحات ناجي تطلب من زوجها " أبو حسين " – الرجل الطيب – البافطات المليئة بالعبارات الطنانة لتعمل له منها كفناً طالما القيادة " الإسرائيلية " قريبة .. وها هي أيضاً في لوحة أخرى يطمئن قلبها عندما يخبرها زوجها – الرجل الطيب- بأن ابنهما استشهد على شط " يافا" .

إنها " فاطمة " التي يقول فيها زوجها " الطيب" في لوحة أخرى ومن خلال مقابلة مع الصحافة الأجنبية :
" .. and if   كل أولادي استشهدوا ، me  فاطمة مستعدين نستنفر ونخلف أولاد يرجمون الحجارة ..." .
والذي يضيف: " فاطمة my love    أخت الرجال بتسوى ألف زلمة من اللي شاطرين بزط الحكي بس.. yes  فاطمة اللي بعدها معاقة مفتاح بيتنا بالناصرة برقبتها .. " .
و" فاطمة " لم تقف في فن ناجي العلي عند حدود المرأة الولادة والصلبة والمعطاءة ، بل تعدت ذلك لتكون المشاركة في الحوار والموقف والشريكة في الموت والمصير، فهي بوصلة الأمان لزوجها " الرجل الطيب " في اقترابه وابتعاده من المسار الصحيح في الحكم على الأمور . لنقرأ هذه اللوحة لناجي العلي :
 
فاطمة جالسة تبتسم بشماته  ظاهرة أمام زوجها " الرجل الطيب " وهي تحتضن طفلها الرضيع ، بينما طفلاها الآخران يجلسان على الأرض حول " الطبلية يذاكران دروسهما ، في الوقت الذي يشاهد زوجها صورته المعلقة على الحائط في وضع مقلوب فيقول  في تحسر ظاهر مشيراً إلى صورته " المقلوبة " ..
اللهم إني صائم ..
أنا مش عارف ليش الكل ضدي ..
بهالبيت .. يعني أنا كفرت لما قلت المخلصين للقضية من القيادات كثار .. فاطمة .. بصيامك مين اللي
قلب صورتي
إنتِ أو ابنك ؟


!!!!!!!
ولتقرأ لوحة أخرى في نفس السياق تبين وعي " فاطمة " وإدراكها وصلابتا وقوتها :
فاطمة نائمة في الفراش وزوجها " الرجل الطيب " يحاول الاقتراب منها فتنهره بحده قائلة :
ابعد عني .. لا تصيبني
.. كل ليلة جمعة باسمع منك
نفس الكلام الحلةو .. ما بصير إلا
على خاطرك يافاطمة .. كلهم إخوات الشليتة
يا فاطمة .. وثاني يوم بتلحس كلامك ..
.. إبعد عني .. علي الطلاق منك

 
!!!!!!!
وثالثة في نفس السياق
فاطمة تجلس بشماتة محتضنة طفلها الرضيع بينما زوجها " الرجل الطيب " جالس بقربها ولفقة التبغ لا تفارق أصابعه ، ينظر إليها قائلاً بعصبية :

صورته كانت بالصالون ... وبعد معركة الجبل
لقيتها معلقة بالمطبخ .. وبعد هالهجوم عاصحناية
لقيتها معلقة بالحمام .. لا تخليني أنرفز عليكي
يامره .. الصورة وينها

هذه هي فاطمة ناجي العلي ، تأتي لتكمل مجريات الحدث وآفاق الوعي المستقبلي للقضية والخوف على مسارها في موضوع اللوحة ، معطية المضمون الإيجابي في اللوحة بعداً كفاحياً علاوة على البعد الجمالي ، إلى جانب " حنظلة " و" الرجل الطيب ".

كما أن وعي فاطمة لا يقف عند حدود البعد الفلسطيني للقضية ، بل يتعدى ذلك ليستوعب الأبعاد الأخرى – القومية والعالمية والإنسانية- كما يظهر في العديد من اللوحات المختلفة مكاناًً وزماناً من حيث موضوعها .
 
فـ " فاطمة " التي تقف مولولة أمام زوجها " الرجل الطيب ".في إحدى لوحات ناجي العلي وسط أربعة صور صور لإبنائها الشهداء بقولها :

كله منك ..
احبلي يافاطمة ...
وخلفي يا فاطمة ...
فلسيطن بدها رجال يافاطمة ...
وبالآخر بيستشهدوا ...
واحد ورا الثاني ...
دفاعاً عن التنظيم والأنظمة !!
يامصيبتك ...
يافاطمة

!!

هي ذاتها فاطمة التي تخبز على " الصاج " مطعمة النار ورق الجرائد المليء بالشعارات كدور النفط وإعلان الجهاد ...
وهي أيضاً " فاطمة " التي تلعن أمريكا وسط بيوت الصفيح في مخيم " عين الحلوة " بينما زوجها " الرجل الطيب ".يحذرها بأن تتوقف حتى لا يتهموها بالشيوعية ..!!!

والتي أيضاً تترحم على " يوري أندروبوف" عند قراءة زوجها " الرجل الطيب ". لخبر وفاته في الجريدة .
أدوار كثيرة ومتعددة ومختلفة لفاطمة في معظم لوحات ناجي العلي تختزل صبر ومعاناة المرأة الفلسطينية العربية المناضلة وعطاءها وصلابتها ووعيها وحضورها الدائم في مختلف المجالات ومشاركتها الإيجابية في الحوارات والمواقف .
وعلى العكس من " فاطمة" ذات القوام المتناسق والإزار الطويل والمنديل " فاطمة " البسيطة الطيبة الواعية والصلبة ، نجد في لشخوص الثانوية في كلريكاتور ناجي العلي :" أم عبد الكادر " المقصود " أم عبد القادر " ولكن تخفف القاف إلى كاف وباللهجة الفلسطينية كما ورد على لسان شخوص كاريكاتور ناجي – زوجة المقاول الكبير " عبد الكريم عبد القادر" ، تلك المرا’ التي تنصف نفسها من سيدات المجتمع الراقي ، فهي مبطونة متكرشة ، لا تلبس المنديل وتقص شعرها وتصففه وفق الموضة وتلبس على الموضة " الميني جوب " والأحذية ذات الكعب العالي ، وتتزيم بالخواتم والعقود والاساور الذهبية وتشرب الخمر ، وتدخن التبغ ، وتهتم بالمظاهر وبإبراز صورتها بالجرائج ، وتدعو صديقاتها في بيتها الفاخر لتناول " المناقيش " ... فقط !!
في ذكرى الإنطلاقة –كما ورد على لسانها في إحدى لوحات ناجي العلي هي " أم عبد الكادر" اتل يتسافر إلى باريس ولندن وأمركيا ، ويدرس أولادها في سويسرا ولندن وأمريكا..

إنها النقيض تماماً " لفاطمة" في مختلف صورها .. إنها رمز الجشع والطمع والانحلال والتفسخ .. تمثل جوهر حياة المستغلين والمتسلقين والإنتهازيين .. يعيشون في قصور فخمة ، يلبسون الملابس الفاخرة ، ويجمعون الذهب يحبون السهر والحفلات ويدرسون أبناءهم وأمريكا .. لا علاقة لهم بالوطن ةلا علاقة لهم بــ " الرجل الطيب ".ولا بــ " فاطمة " المكافحين المناضلين الللذين يقدمان أبناءهما شهداء من أجل الوطن الشهيد تلو الشهيد ... واقفين بشموخ حافيي القدمين أما ا لقصف والدمار يمسحان دمعة أو يلسمان جرحاً ..
هذا هو انحياز ناجي العلي في فنه ... ونستطيع أن نقول أيضاً أن موضوع ناجي العلي يكمن في انحيازه .. انحيازه للجماهير الكادحة ، للفقراء ، للمناضلين ، للشهداء للوطن ... وفي رفضه للفساد السياسي والاجتماعي ولكافة مظاهر البذخ والترف ...




الرجل الطيب


       اسميناه " الرجل الطيب " لأنه بلا اسم ثابت محدد ، فمرة يدعى العم عباس ومرة أبو حسين ومرة أبو إلياس ومرة أبو جاسم ومرة أبو حمد ومرة مارون ومرة محمد ... إلخ ...

       إنه صورة واحدة وشخصية واحدة لأسماء عديدة من مختلف أنحاء الوطن العربي .. شخصية تعلن إنتماءها ووفاءها للوطن والشعب والأمة ، وتمقت وتدين الطوائف والطائفية والمذهبية ، تماماً كما ترفض الاعتارف بالحدود المصطنعة بين الأقطار الغربية وتتمى زوالها لأنها تدفع من حريتها وكرامتها وحياتها بسبب هذه الحدود ..
      إنه الفلسطيني المشرد والمقهور والمناضل والمعتقل والمغدور والمقتول ، وهو اللبناني المشرد في وطنه والفقير المكافح والقتيل، وهو المصري الكادح المحب لمصر والعروبة، وهو الخليجي والسوداني والعراقي والانتماء الوطني والوعي القومي.
       هو بائع الخضار في سوق بيروت في ظل موجة تفجير السيارات، والجريح في الجنوب الذي جعل من  ظهره لوحة لكلمة " صامدون" بينما قدمه المصابة تحمل شارة " روداج " وهو متكيء على عكازيه ، هو مارون ومحمد اللذان ينزرد حول رقبتيهما طوقان  حديديان ينتهيان بسلسلة حديدية مشتركة تتدلى منها ميدالية تتوسطها نجمة " داوود " السداسية .
       هو القتيل مع أبناء المخيم في " صبرا " و" شاتيلا" نحن شاخصة ممنوع الوقوف .. وهو أيضاً أبو إلياس الذ ي رفض القتال مع الكتائب والجيش العميل في الشريط الحدودي  في الجنوب .. وهو الفدائي المحتج على تعدد التنظيمات بقوله :
       " ما بكفينا جماعة أبو فلان وجماعة أبو علان .. هذا اللي كان ناقص .. جماعة أبو حنيك!!!" .

       كما أنه القائل في مقابلة مع الصحافة الأجنبية " :
         بتسألني عن دور النفط .. الأمريكان نازلين فيه شفط .. وغذا كان ممكن نحب أمريكا .. NO it is not  .. طبعاً إحنا بانحب لبنان وخصوصاً الجنوب لأنه قريب من الجيل ..والمثل قال كرمال " عين الحلوة " تكرم مرجعيون ...
        عمتسألني إذا أنا مسلم أو مسيحي .! سني أو شيعي ؟!! ... أما سؤال بارد صحيح .. مش فهمتك من الأول يا أخو الشليته إني poor   بن   poor".
       وأبو جاسم في ديوانيته يتحدث هاتفياً مع الكرملين ويطلب " تنكر" فودكا ...

        إنه الشهيد في العديد من لوحات ناجي العلي الذي يتم اغتياله بسبب الشعارات الوطنية والقومية التي يكتبها ويصرخ بها ، فمرة بالرصاص من الخلف ، ومرة تحت المرساة الأمريكية التي تحطم الزورق المرموز به للخليج وتقتل " الرجل الطيب" الذي يظهر جزءاً من جثته بارزاً مع الحطام ، ومرة بالقصف الصهيوين وأخرى بالاقتتال الداخلي بين الطوائف والأحزاب المتعددة في لبنان .
        إنه الجريح في العديد من اللوحات والذي يتلقى بجسده عدة رصاصات أو قطعاً من الشظايا أو جلد السياط ، ولا يغير مواقفه .. هو المعتقل في السجون الذي يتلقى التعذيب والضرب والإهانة ويرفض الاعتراف بالحدود المصطنعة .. هو المتظاهر الرافض دائماً عبر اليافطة والإعلان والخطاب للوضع القائم .. والمتهكم على الخارجين على إرادة الوطن .. إنه الحزين الكئيب على فراق الشهداء ، والصبور على المعاناة والألم .. وهو فوق كل ذلك الإنسان المقاوم الذي يحمل السلاح ويقاتل ويستشهد وإضافة لكل الأدوار السابقة التي حملها ناجي العلي لهذا " الرجل الطيب" في لوحاته ، فانه لايغيب عنا دوره الهام في إكمال صورة ومفارقات الحدث في اللوحة ، فهو من يهيء للتعليق المنطلق من " حنظلة " أو " فاطمة " في العديد من الرسومات إما بالحركة أو الإشارة أو القول المتناسق مع تعابير الوجه والجسد .. هذا الرجل النحيل الجسم ، الحافي القدمين ، يرتفع بقامته الطويلة المرقعة الثياب ووجهه المهموم المقطب .. ليرمز للرجل العربي الفقير البسيط الطيب المكافح الذي لا يجيد اللف والدوران ولا يعرف اكذب والتملق .. ليرمز للمواطن العربي بحسه الوطني والقومي وإيمانه العميق بأمته وتاريخها وقضيتها المركزية معبراً عن ذلك الإيمان بالعديد من المواقف الشجاعة والتي يواجه بسببها علاوة على شقائه القائم السجن والتعذيب والنفي والقتل .. ليرمز للمواطن العربي ليس بمعاناته وسجنه وموته بل وبرفضه ونضاله وأمله ...

         إنه رمز الصبر والصمود والنضال والأمل في العود\ة لدى شريحة اجتماعية واسعة من جماهير أمتنا العربية .

        " الرجل الطيب"بشكله وصفاته وحياته وممارساته النقيض التام لــ" ابو باصم " ذلك المتكرش المبطون الذي يلبس ربطة العنق والطقم الغربي ويعيش في الفنادق الفخمة ويشرب السيجار ويحتسي الخمر .. ويحاول الاتصال هاتفياً مع " فاطمة" في مخيم " برج البراجنة" من تونس ، فيكون أبلغ رد منها إغلاق الخط في وجهه ...
         هو " أبو باصم "  الجشع ، الطماع ، صاحب الأموال المتنقل بين الدول الأوروبية والولايات الأمريكية  طالباً الاستجمام ...
        " أبو باصم " الذي لم تعرف معاناة " الرجل الطيب" وعذاباته طريقاً إليه .. إنه النموذج المنسلخ عن وطنيته وأهله وشعبه وقضيته ، وهو الشريحة ذات المصالح الخاصة التي لا تتحقق إلا على حساب الوطن والمواطن ، على حساب " حنظلة " و" فاطمة" و" الرجل الطيب" ...
 
 




الشخوص المتكرشة
      هي شخوص أساسية في كاريكاتور ناجي العلي ، نجدها في مواقف متعددة لتعبر عن البعد الآخر غير الإيجابي في الموضوع المطروح .

      وهي شخصيات تمثل – كما ذكرنا – البعض السياسي والحاكم ، والتاجر ، والانتهازي ، والمستغل " بكسر الغين " ...

       ونجدها دائماً شخصيات مترهلة ، متكرشة ، متسطحة الملامح بلا رقبة ولا أقدام ( على الأغلب) ، غبية ، خالية من معاني الادراك والوعي ، جشعها يتوضح في بطونها والدوائر التي تشكلها ...
       إنها رمز لكل ماهو متعفن في حياتنا العربية عموماً .. ولعل ناجي العلي برسمه تلك الشخصيات على هذه الصورة بدون رقبة ولا أقدام ، يريد أن يؤكد أنها شخصيات تنقصها ركائز الاستمرار لأنها شخصيات طارئة وزوالها محتوم كونها بلا جذور وبعيدة عن الأصالة الشعبية ..

        فالطقم الغربي وربطة العنق و" البرنيطة " والخمر والسيجار والتكنولوجيا والبيوت الفخمة والأثاث الفاخر ، وتصنع الحديث والمجاملات والتملق والحفلات والسهرات الحمراء هي أهم مايميز هذه الشخصيات علاوة على فقدانها للكرامة و جفاف عواطفها وبلادة حسها وضيق أفقها وارادتها المسلوبة وافتقارها للمضمون الانساني الحقيقي ....

        وربما كان ذلك ماجعل ناجي يصورها في صور تكاد تكون غريبة عن الصفات الآدمية الحقيقية في محاولة منه لنفي إنسانيتها وإبراز مضمونها اللاانساني واللاأخلاقي ..
         وفي كل الحالات نجد تلك الشخصيات حاقدة على " حنظلة " و" الرجل الطيب" و" فاطمة" ومساومة عليهم وعلى حقوقهم جميعاً .

         وفي حالات أخرى نجدها تترصدهم لتغتالهم في اللحظة المناسبة .إنها شخصيات تكره الأرض والشجر ، تكره الأطفال ، تكره الفراشات والعصافير ،وتمقت محاولات الاحتجاج فتحاول كم الأفواه وتقييد الأطراف ومصادرة الحريات ،كما تحاول حماية نفسها ولضمان استمرارها تستعين بما هو غريب عن بيئة " حنظلة"ورفاق دربه  على حساب التاريخ والجغرافيا والأصالة والتراث والوطن والشعب.. إنها شخصيات تحاول تلميع الغزو الثقافي الاستعماري وتشجع التبعية الاقتصادية وترعى الأقليمية وتغذي الطائفية ... إلخ ..